بقلم قداسة البابا شنودة الثالث
من هو الانسان الوديع؟ وما صفاته وبناء شخصيته؟
الانسان
الوديع هو الشخص الطيب المسالم. وكثير من الناس يستخدمون صفة الطيب بدلاً
من صفة الوديع. وهو عموماً إنسان هادئ بعيد عن العنف. هو هادئ فى طبعه.
هادئ الأعصاب، وهادئ الألفاظ والملامح، وهادئ الحركات فالهدوء يشمل كله من
الداخل والخارج. فهو هادئ فى قلبه ومشاعره، وهادئ أيضاً فى تعامله مع
الآخرين، ويتصف بالحلم فهو حليم فى أخلاقه.
وقد
قيل عن السيد المسيح فى وداعته إنه "لا يخاصم ولا يصيح، ولا يسمع أحد فى
الشوارع صوته. قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة مدخنة لا يطفئ". فهكذا يكون
الوديع بعيداً عن الصخب والضوضاء. لا يصيح. بل حينما يتكلم، يتصف كلامه
بالهدوء واللطف، يختار الفاظه بكل دماثة وأدب. لا يجرح بها شعور انسان
أياً كان. حتى إن كان ذلك الشخص مثل فتيلة مدحنة، لا يطفئها، فربما تمر
عليها ريح فتشعلها.
يعمل كل ذلك – لا عن ضعف – وإنما عن لطف
يذكرنى هذا الأمر بقصيدة كنت قد نظمتها منذ حوالى 56 عاماً فى يوم الأربعين لأستاذ وديع كنت أحبه، وقلت فيه
يا قوياً ليس فى طبعه عنفُ ووديعـاً ليس فى ذاته ضعف
يا حكيماً أدّب الناس وفـى زجره حبّ وفى صوته عطفُ
لك أسـلوب نزيـه طاهر ولسـان أبيض الألفـاظ عَفّ
لـم تنل بالذمّ مخلوقاً ولم تذكر السوء اذا ما حلّ وصفُ
إنما بالحب والتشجيع قـد تصلح الأعوجَ، والأكدرُ يحنو
الانسان الوديع يكون أيضاً بعيداً عن العنف وعن الغضب هو انسان هادئ لا
يثور ولا يثار. لا يحتد ويغضب بسرعة ولا يبطء. ولا ينفعل الانفعالات
الشديدة، ولا تغلبة النرفزة (العصبية)، لأنه هادئ باستمرار، يتصف بالطيبة
والبشاشة. لا ينتقم لنفسه، ولا يحلّ مشاكله بالشدة. بل إن حدث وأساء اليه
أحد، يقابل ذلك بالاحتمال والصبر.
والإنسان
الوديع لا يقيم نفسه رقيباً على الناس وتصرفاتهم. إنه لا يقيم نفسه
قاضياً، ولا يتدخل فيما يفعله غيره. ولا يعطى نفسه سلطة مراقبة الآخرين
والحكم على أعمالهم. وإن إضطرته الضرورة الى الحكم، لا يقسو فى أحكامه.
وقد يغلبه الحياء، فلا يرفع بصره ليملأ عينيه من وجه انسان. إنه لا يفحص
ملامح غيره ليحكم على مشاعره ماذا تكون، أو ما مدى صدق الغير فى كلامه..
وإن حورب بذلك يقول لنفسه: "أنا مالى، خلّينى فى حالى" هو بطبيعته الوديعة لا يميل الى فحص أعمال الناس..[وإن تدخّل فى الإصلاح، يُصلح بهدوء ووداعة ورقة
والانسان الوديع يكون دائماً سهل التعامل مع الغير. يستطيع كل شخص أن يأخذ
معه ويعطى... إنه سهلّ فى نقاشه وحواره. لا يحتد ولا يشتد. ولا يستاء من
عبارة معينة يقولها من يحاوره. بل يشعر المتناقش معه براحة مهما كان
معارضاً له. يعرف أنه سوف لا يغضب عليه، وسوف لا يحاسبه على كل لفظ مما
يقوله.
الانسان الوديع بشوش، لا يعبس فى وجه أحد. له ابتسامة حلوة محببة الى
الناس، وملامح سمحه مريحة لكل من يتأملها. لا تسمح له طبيعته الهادئة أن
يزجر أو يوبخ أو يحتد أو يشتد، أو أن يغير صوته فى زجر انسان.
ومهما عومل، لا يتذمر ولا يتضجر ولا يشكو. بل غالباً ما يلتمس العذر
لغيره، وفى ذهنه يبرر مسلكه، ولا يظن فيه سوءاً، وكأن شيئاً لم يحدث. فلا
يتحدث عن إساءة الناس اليه، ولا يحزن بسبب ذلك فى قلبه. وإن حدث وتأثر
بسبب ذلك أو غضب، سرعان ما يزول تأثره. ولا يمكن أن يتحول حزنه أو غضبه
الى حقد، بل ما أسرع أن يصفو.
إنه انسان بطئ الغضب. لا يغضب لأى سبب. أما اذا غضب الوديع، فلابد أن
أمراً خطيراً قد دعاه الى ذلك. وغالباً ما يكون غضبه لأجل الخير ولأجل
الغير، وليس لأجل نفسه أو بسبب كرامته أو حقوقه الشخصية... واذا غضب
الوديع فإنه لا يثور ولا يفقد أعصابه، إنما يكون غضبه هو مجرد تعبير عن
عدم موافقته وعدم رضاه عما يحدث. فهو عموماً أعصابه هادئة. واذا انفعل لا
يشتعل.
والانسان الوديع هو بطبيعته مسالم، لا ينتقم لنفسه. لا يقابل الشر بمثله،
ولا يرد على السيئة بما يشبهها. إنما هو كثير الاحتمال. لا يدافع عن نفسه.
بل غالباً ما يدافع عنه غيره، موبخين من يسئ اليه بقولهم "ألم تجد سوى هذا
الانسان الطيب لكى تسئ اليه؟!". فالوديع لا يؤذى أحداً، ويحتمل أذى
المخطئين..
والوديع له سلام فى داخله، فلا ينزعج ولا يضطرب. فكل المشاكل الخارجية لا
تستطيع أن تعكر صفوه الداخل. وكما قال أحد الآباء "سهل عليك أن تحرّك
جبلاً من موضعه. وليس سهلاً أن تثير انساناً وديعاً".
والوديع لا يصطنع الهدوء. إنما كما خارجه، هكذا داخله أيضاً. إنه كصخرة أو جندل فى نهر، مهما صدمته الأمواج لا يتزعزع .
والوديع بعيد عن المجادله والمحارنة. أو ما يسميه العامية (المقاومة فى
الكلام). لأنه لا يجاهد لكى يقيم كلمته أو لكى ينتصر فى المناقشات. إنما
هو يقول رأيه ويثبته، وليقبله من يشاء ومتى يشاء، دون أن يدخل فى صراع
جدلى يفقده هدوءه..
والوديع لا يوجد فى تفكيره خبث ولا دهاء ولا تعقيد... لا يقول شيئاً وفى
نيته شئ آخر. بل الذى فى قلبه هو الذى على لسانه. وما يقوله لسانه إنما
يعبر عن حقيقة ما فى قلبه، فليس عنده التواء، ولا يدبر خططاً فى الخفاء.
بل هو انسان واضح، يتميز بالصراحة، يمكن لمن يتعامل معه أن يطمئن اليه
تماماً. فهو شخص بسيط، لا حويط ولا غويط!.
أنه يمر على الحياة، كما يمر النسيم الهادئ على سطح الماء.. فهو لا يُحدث
فى الأرض عاصفة ولا زوبعة، ولا يُحدث فى البحر أمواجاً ولا دوامات. فهو لا
يحب أن يحيا فى جو فيه زوابع ودوامات لأن كل ذلك لا يتفق مع طبعه، ولا مع
هدوئه ولا لطفه، ولا مع أسلوبه فى الحياة. لذلك كل من يعاشر يلتذ بعشرته.
فهو انسان طيّب لا يصطدم بأحد، ولا يزاحم غيره فى طريق الحياة. وإن صادف
فى طريقه مشاكل، فإنه يمررها، ولا يدعها تمرره..
وأخيراً هناك نوعان من الودعاء: أحدهما وُلد هكذا، والثانى اكتسب الوداعة بجهاد وتداريب وبعمل النعمة فيه...
على أن فى حديثنا عن الوداعة، لا يفوتنا أن ننسى ما يعطلنا. فأحياناً تقف
ضدها الإدارة والسلطة. فالبعض إذ يمارس الأمر والنهى، والتحقيق والمعاقبة،
ويكون من واجبه مراقبة الآخرين وتصريف أمورهم، قد يفقد وداعته احياناً،
ويرى فى الحزم والعزم والحسم ما يبرر له العنف فى بعض الأوقات. ولكن مغبوط
هو الذى يحتفظ بوداعته فيما يمارس عمل السلطة... وهنا يبدو أن موضوعنا هذا
يحتاج الى تكملة...